3. نحـو «إثنولوجيا للمسـرح المغربـي»:
وبالفعل، فقضية «ما قبل المسرح» التي يطرحها حسن بحراوي في مؤلفه الحالي - وتناولها حسن المنيعي في كتابه أبحاث في المسرح المغربي - تشكل مادة لاجدال في طابعها الإثنوغرافي، وبالتالي فهي تقع في صلب ما يمكن تسميته بـ «إثنولوجيا المسرح» أو «أنثروبولوجيا المسرح»[68]. فالمادة المقدمة تمثل لبنة هامة نحو بناء هذا القطاع من البحث المسرحي الذي ينبغي أن يكون دراسة للمسرح بما هو سلوك اجتماعي، لكن أيضا دراسة للمجتمع بما هو إخراج مسرحي. إن هذه الإثنولوجيا حاضرة في الكتابين معا، لكن بمستويين متفاوتين؛ فكتاب حسن المنيعي يركز على الجوانب التقنية في المسرح المغربي فيما يركز مؤلف حسن بحراوي على الجوانب الاجتماعية لهذا المسرح. ومن شأن عملية تركيبية للمقاربتين معا أن تفضي إلى إثنولوجيا المسرح المغربي التي نتحدث عنها هنا. وبديهي أن ذلك لن يتحقق إلا بعملية تركيب بين أدوات البحث في الفن المسرحي وأدوات البحث في العلوم الاجتماعية. وبعيدا عن زعم رسم المعالم النهائية لهذا النوع من الدراسات يمكن تقديم بعض الأفكار والتساؤلات الأولية خارج أي تنظيم:
3. 1. إثنولوجيا الطب العقلي: تجربة للاحتذاء؟
يمكن أن تستفيد «إثنولوجيا المسرح» أو «المسرح الإثنولوجي» من تجربة ما يدعى بـ «إثنولوجيا الطبّ العقلي» أو «الطب العقلي الإثنولوجي» (ethnopsychiatrie) الذي يترجمه بعض المشارقة بـ «التحليل النفسي العرقي»[69] أو «التحليل النفسي الأصولي»[70]. فمن المعروف أن مؤسسة طب الأمراض العقلية لم تظهر إلا في القرن 19 في أوروبا، وفي فرنسا بالضبط[71]، وأن نشأتها تساوقت وتحولات اجتماعية واقتصادية وعلمية، وفكرية أساسا (النزعة العقلانية، ولاننس بهذا الصدد أن هذه المؤسسة قد تأسست غداة حملة اضطهاد الساحرات، من قِبل محاكم التفتيش، التي استغرقت ثلاثة قرون في مجموع أنحاء أوروبا (ق. XV، وXVI، ثم XVII[72]). وقد قدمت هذه المؤسسة نفسها بديلا لكل أشكال العلاجات التقليدية، وبهذا المعنى يذهب الكثيرون إلى اعتبار الطبيب الأوروبي ابنا للساحرة[73]. إلا أنه من خلال الاحتكاك بشعوب أخرى وثقافات أخرى اتضح أنه منذ أن كان الإنسان كانت الأمراض العقلية، وأن سائر المجتمعات لم تبق مكتوفة الأيدي أمام المرض العقلي تنتظر القرن 19 كي تأتيها أوروبا بالعلاجات الملائمة، بل على العكس اهتدت عبر تاريخها إلى أنماط علاجية تتصف بفعالية مماثلة لفعالية الطب الغربي، إن لم تكن أفضل منها في بعض الأحوال[74]، كما اتضح أن النمط العلاجي الأوروبي غالبا ما يفشل في السياقات غير الغربية، أي يفشل حيث تتبدى العلاجات التقليدية شديدة الفعالية. ومن ثمة لم يجد الأوروبيون بدا من الاعتراف بمؤسسة العلاج التقليدي، واعتبارها أنماطا علاجية أخرى موازية أو مساوية للمؤسسات العلاجية الغربية، فأحدث هذا الفرع المعرفي الذي يسمى بـ «إثنولوجيا الطب العقلي» أو «الطب العقلي الإثنولوجي» (ethnopsychiatrie) ومن هذه الزاوية لا تخلو وضعية المسرح المغربي بشقيه العصري والتقليدي من مجموعة من التماثلات مع المؤسسة العلاجية المغربية حاليا بجانبيها التقليدي والعصري:
فمستشفى الأمراض العقلية هو الآخر دخل إلى المغرب مع دخول الاستعمار، أي هو نتيجة مثاقفة قسرية. قبل أن تفد هذه المؤسسة كانت هناك مؤسسة قائمة الذات[75]. وبهذا المعنى فإن طبيب الأمراض العقلية، بل والطبيب المغربي نفسه، هو وريث المطبب التقليدي والفقيه والعرافة وطوائف الطرق العلاجية كما أن رجل المسرح وريث للحلايقي، وهو ما لم يغب عن بعض المسرحيين المغاربة، أمثال الطيب الصديقي، إذ يقول: «منك تعلمنا جوهر مهنتنا. من خلال عصا واحدة لاغير تحولها حسب إرادة الحكي، تصبح العصا شجرة مخضرة، تتحول إلى مظلة أو إلى حصان راكب... وفجأة هو ذا السيف الذي يجرح أو هو ذا القلم الذي يدون... »[76].
كما أن وفود الطب الغربي وقيامه على سلطة المعرفة التجريبية المعززة بسلطة من القانون (يمنع ممارسة الطب على من لم يتخرج من جامعة للطب) قد أحال ممارسات الفقيه والعرافة والطرق إلى ممارسات هامشية أو موازية - في أفضل الحالات -، فإن قدوم المسرح بشكله الغربي قد أحال الأشكال المسماة «ما قبل مسرحية» إلى ممارسات هامشية أو فلكلور - في أفضل الحالات - أو فنون شعبية، إذ مَن منا يجرؤ اليوم على القول إن الحلايقي رجل مسرح؟ إذ حالما نفكر بالأمر نجد نفسنا أمام ممنوع الحداثة الذي يقتضي من المسرحي أن يكون على معرفة ليس بالكتابة والقراءة فحسب، بل وأيضا التخرج من أحد معاهـد الفنون المسرحيـة، حيث يفترض فيه أن يتلقى تكوينا في الإخراج والتمثيل والديكور والماكياج والإنارة...، فضلا عن الإلمـام بنشأة المسرح وتاريخه، ومدارسه، وتاريخ علم الجمال، الخ.
3. 2. المسرح، الأسطورة، المقدس:
الأشكال الثقافية المعنية، من رقص علاجي وحلقة وطقوس إنشاد الشعر، كلها تقوم على أساطير، أي على حكايات تروي كيف جاء واقعُُ ما إلى الوجود، وتعَلمُ اللغة الوصفاتِ الطقوسية القادرة على التحكم في القوى المقنَّعة، ومن ثم تشكل، بمحتواها، بنية دائمة ترتبط بالماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء[77]. كما تؤدي (الأشكالُ ذاتها) وظائف معينة بعضها قار لا يتغير، لأنه يمس قضايا إنسانية أزلية لاتتأثر بالزمان والمكان، كمسألة الموت، وأصل الحياة، والمرض، وأصل اختلاف الجنسين، والحب، والعدالة، والظلم، والجمال، الخ. ولو أنَّ المجتمعين المدني والخطاب العلمي يتأسسان على الامتناع عن تقديم إجابات عن أغلب هذه الأسئلة[78]. ومن بين الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا المستوى: ما هي الأساطير التي يركن إليها المخرجون المسرحيون المغاربة في إخراج مسرحياتهم اليوم؟ ما هي تجليات المقدس في المسرح العصري؟ ما هي الوظائف التي يؤديها هذا المسرح؟ كيف يتوصل المسرحان معا، التقليدي والعصري، فيما وراء الاختلاف الظاهري بينهما، إلى تحقيق آثار في المتلقي ربما تكون واحدة؟
3. 3. المسـرح، المثاقفـة والتحول الاجتماعي:
علاوة على الوظائف الاجتماعية والنفسية والدينية والدنيوية التي تؤديها تلك الظواهر، يتضح من خلال مؤلفات حسن المنيعي وكتاب بحراوي أن ممارسات بوجلود والحلقة وسلطان الطلبة كانت تندرج ضمن سياق ثقافي واجتماعي واقتصادي محدد، هو ما يصطلح عليه حاليا في الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية بالمجتمع التقليدي[79]، الذي يتحدد في أحد التعريفات بكونه مجالا يتألف من «إطار هو الفصل بين الجنسين، وبنية هي النسب الخطي الأبوي، ونمط في الممارسة هو السلطة الأبوية، وإوالية لإعادة الإنتاج هي الإيصال الثقافي»[80]. من الناحية الاقتصادية تندرج هذه الممارسات ضمن ما يمكن تسميته باقتصاد الاكتفاء الذاتي: فالفرجة لا تقدم من أجل الفرجة (غياب الفن للفن)، وإنما لمنفعة تتمثل في التنشئة الاجتماعية والوعظ، يوازيها أو يعقبها دائما مقابل يأخذ شكل مواد غذائية (مقايضة ¬ غياب النقد[81]؛ عرض مسرحي مقابل طعام، ونادرا فرجة مقابل نقود). وهذا ما لازال يشاهد حتى اليوم في الأشكال التي استطاعت البقاء، كالحلقة، والرقص العلاجي، والحفلات التي تخلدها بعض الطوائف الدينية بشكل موسمي: فالحلايقي يوقع عرضه المسرحي دائما بالاستجداء ما لم يضع الحصول على مقابل شرطا مسبقا لتقديم عرضه، والرقص العلاجي الذي تقوم به طوائف، ككناوة، وإن كان مداره طرد روح معتدٍ من جسم شخص مريض، فهو لايتم إلا بحضور جمهور من «المدعوين / المتفرجين» تستدعيهم عائلة المريض لحضور الطقس، لكن أيضا للمساهمة في تسديد ثمن العلاج على شكل هبات تقدم للراقصين على مدار الشعيرة. إذا كانت هذه الأشكال الثقافية لا زالت تحافظ على نمطها الاقتصادي. نعم يحدث أن ينقل أفراد الطوائف إلى خارج المغرب للمشاركة في تظاهرات فلكلورية يُنقلون خلالها أحيانا حتى إلى خارج المغرب، لكن الجماعة لا زالت المصدر الوحيد الذي يقدم مكافأة على العروض. فضمن أي اقتصاد تقع الممارسة المسرحية العصرية؟ إذا كانت الدولة لا تعترف ضمنيا بممارسي المسرح التقليدي من خلال تركها إياهم يتدبرون أمرهم كيفما اتفق[82] فكيف تعامل هذه الدولة نفسها المسرح العصري؟ بتعبير آخر، هل نجح هذا المسرح في الحصول على مكانة داخل عملية المأسسة التي تشهدها البلاد منذ دخول الاستعمار؟ إن الخطاب المتذمر الذي ظل رجال المسرح يصوغونه إلى وقت حديث جدا، من خلال التذكير المتواصل بوضاعة أحوالهم الاقتصادية والدعوة إلى إرساء تقليد الاحتراف، ليحمل على الاعتقاد بأن العكس هو ما ساد منذ الاستقلال إلى اليوم[83]. وإذا كان هذا الأمر حقيقة واقعية، فأي تصور تحمله الدولة المغربية العصرية - ولو ضمنيا - للمسرح؟
والسؤال الذي يمكن طرحه في هذا المستوى هو: ما نوع التأثير الذي يلحقه التحول الاقتصادي الذي يشهده المغرب منذ دخول الاستعمار (والمتمثل أساسا في حلول قيمة النقد محل الشرف، والإنتاج من أجل السوق بدلا من الإنتاج من أجل الاستهلاك، واضطلاع الدولة بوظيفة الأب الاقتصادية، وتراجع سلطة هذا الأخير داخل الأسرة، ومراجعة وضعية المرأة[84]، أقول ما نوع التأثير الذي يلحقه هذا التحول بالمسرح التقليدي؟ هل التطور ماض نحو استبدال كلي للمسرح التقليدي بالمسرح العصري أم أن هذا الأخير ستتعزز مكانته رغم كل شيء بالنظر إلى وظائف التنشئة الاجتماعية وترسيخ المعتقدات التي يقوم بها، من جهة، وبالنظر إلى عفويته واستخدامه للغة الأم، من جهة ثانية، وبالنظر إلى تسربه ضمنيا إلى المسرح العصري من خلال الأعمال التي يستلهمه فيها مخرجون كالطيب الصديقي في المغرب وعز الدين المدني في تونس؟ هل هذا التوظيف تكيفُُ للمسرح التقليدي مع المعطيات الجديدة التي يفرضها التقدم، أي ضربُُ من التغيير الذي يشهده هذا المسرح، أم هو نوع من النكوص إلى الذات، وبالتالي يمكن إدراجه ضمن ما يسميه بعض الباحثين بـ «المثاقفة المعاكسة» (acculturation antagoniste) أو «المثاقفة الداخلية» (enculturation) التي تؤول في نهاية المطاف إلى عملية مقاومة للقيم الدخيلة إما لعجز المثاقف عن التكيف معها أو للتهديد الذي تشكله هذه القيم للهوية الأصلية؟ أم يتعين النظر إليه باعتباره نوعا من التلوين المحلي للمسرح الغربي الوافد، وبالتالي نوعا من ممارسة مسرح على الطريقة المغربية، هذه العملية التي تنطوي هي الأخرى على نوع من التغاضي عن الشروط التي أنتجت ضمنها الواردات الغربية؟
3. 4. المسرح، الجماعة والفــرد
إن ما يسمى بالمسرح التقليدي، شأنه شأن سائر قطاعات الثقافة التقليدية، لا يُمارَس إلا داخل وحدة ينصهـر فيها الفـرد بالجماعة، باعتبار المجتمع التقليدي يعطي الأسبقية للجماعة على الفرد، يغلب قيمها على قيمه، وبالتالي فهو [المسرح] يكون دائما نوعا من اللغـة التي تحكـي بها الجماعة عن نفسها ومشاغلها على لسان فرد (الحلايقي) أو مجموعة (اعبيدات الرما، الطوائف، الخ.) تختارها الجماعة الاجتماعية ذاتها. بمعنى أن المرء لا يصير «حلايقيا» أو مغنيا بفرقة اعبيدات الرما، أو مطببا أو ساحرا، إلا إذا قدم نفسه بهذه الصفة وقبلته الجماعة واعترفت له بها. ومعناه إمكان الحديث عن نوع من التوظيف (recrutement): يرشح الفرد نفسه لشغل وظيفة، فتنيطها به الجماعة استنادا إلى مجموعة من التقاليد والتمثلات والأعراف والأساطير. وعلى غرار ما يقوله ليفي ستراوس، يمكن القول: «إن الممثلين التقليديين لم يكونوا ممثلين كبارا لأنهم يحققون الفرجة، بل كانوا يحققون الفرجة لأنهم كانوا ممثلين كبارا»[85] فهل يعمل مزاولو المسرح العصري في المغرب الراهن ضمن هذه القاعدة أم وفق قاعدة أخرى؟ ما هي؟ إن نزعة الفردانية، على صعيد السلوك كما على صعيد القيم، لا تفتأ عن الترسخ يوما بعد يوم في سياق التحول الذي يشهده المغرب حاليا. وبالتالي، يمكن قلب القولة السابقة لتصير: «إن الممثل حاليا لا يحقق الفرجة لأنه ممثل كبير، بل هو ممثل كبير لأنه يحقق الفرجة». فكيف يصير المرء ممثلا كبيرا في المغرب الراهن؟ أو كيف يتحقق الولوج إلى المكان المسرحي؟ ما نوع التعاقد الذي تقيمه الجماعة مع الممثل؟ ما هي الجماعة أو الجماعات التي تتلقى المسرح العصري؟ مانوع الجماعة أو الجماعات التي تتلقى المسرح التقليدي؟ ما نوع العلاقة القائمة بينهما؟ كيف يمكن تفسير هذا الصنف من المسرح الذي يدعى بالمسرح الفردي الذي يعتبر عبد الحق الزروالي والسنوسي وبنياز من أعلامه البارزين في المغرب حاليا؟ هل يمكن اعتباره تعبيرا رمزيا على هذا الانتقال الذي تشهده القيم حاليا بالمغرب من قيم جماعيـة إلى قيم فردية؟
خــلاصــــة:
مما سبق يمكن استخلاص أن الكتابين اللذين نحن بصددهما، بما يقدمانه من معارف عن الأشكال المسرحية في المغرب بوضعها في السياق الاجتماعي، إنما يؤسسان لإثنولوجيا للمسرح المغربي يمكن أن تساهم في معرفة الكثير من جوانب هذا الفن، لكن أيضا في معرفة الكثير حول المجتمع المغربي، والإنسـان عامــة.